” الدم ما بصير مي ” ، صحيح
لكنه قد يتجلط ! ، أو قد تصيبه عدوى فيتقيح ، أو تغزوه بكتريا فيتجرثم .. وهذا أسوء من ” المي ”
يبدو من العنوان أنّ كلامي سيكون في السياسة ، أو عن التعايش الاجتماعي ، أو عن المصالحات الأهليّة ..
كلّا ، كلامي ببساطة عن العائلة ، تلكَ التي أعتقدُ أنها أقدس المقدسات ، وأولى الأولويات .
-بحكم ” الدم مابصير مي ” ننشغلُ ونهملُ علاقاتنا القريبة ، ولانراعي مشاعر المقربين و من نعيش وإياهم.
نراعي حدود الذوق واللياقة مع أناسٍ خارج بيوتنا فنهتمّ بمشاعرهم ونحاول جاهدين ألّا نجرحَ أحاسيسهم.
في الوقتِ ذاته نسمح لأنفسنا بالتعدي على من نحبهم ، لأنّ حبنا لهم وحبهم لنا ” مسلّمٌ به ” ونثقُ أنّ حبّ العِشرة سيغفرُ كل الخطايا ! وننسى أنّ هذه العِشرة مشروطة ! مشروطة ب ” حُسن العِشرة ”
نعم ، ينبغي علينا أن نكون على طبيعتنا في بيوتنا ، لكنْ على أن تكون طبيعتنا ” مهذبة ” تراعي القريب كما الغريب.
الولد الذي يستغلُّ فكرة أنّ أمّهِ باقية على حبها له مهما فعل ، فيقومُ بتنفيسِ غضبه واحباطه الذي يتعرضُ له في حياته أو من أصدقائه وصديقاته ينبغي أن يعلم أنّ الدم من الممكن يوماً أن يتجرثم إن كانَ انتباههُ مشغولاً ، و أنّ علاقته مع أمّه من اللازم أن تبقى طاهرة ، أو على الأقل ” أقلّ جرثومية ” إن حرصنا على الدقة .
و الزوج الذي لم يستطع أن يرفع صوته على مديره ، فيقوم بإلقاء صيحاتِ الغضب على زوجته كتنفيس عن غضبهِ ، مستشعراً بداخله أنّ ” الدم مابصير مي ” فيدخلُ بحالة أمان ” هشّة ” تُخوّله أن يقول و يفعل ما يشاء ، متى يشاء .
والأم ، التي تبتزّ أبنائها وبناتها ، أو تفرضُ عليهم مالايناسبهم ، أو تترجمُ مشاكلها الخاصة وغير الخاصة بإسقاطها على أولادها ، معتقدةً أنّه ينبغي لهم أن يقبلوا ويحتملوا ذلك بحكم أنّها أمهم !
و الأب الذي يبيحُ لنفسه أن يتصرف مع أولاده على أساس أنّهم أشياء يملكها ، إنّه يعتقد تماماً أن ” الدم مابصير مي ” ومع الوقت ، تتفسخُ العلاقة معهم وتُردَمُ بها قنوات التواصل والثقة والفعالية ، ويبقى الدمُ دماً ! ولا يُصبحُ ماءً !
والأخُ الذي إن رأيته مع صبيةٍ يحبها لن تعرفه من فرطِ الإحساسِ والاهتمام و ” الإتيكيت ” وستشكُّ كثيراً ، هل هذا هو الذي يعامل أخته بجفاءٍ وغلظة ؟ هل هذا هو الذي لا يجلسُ مع أمّهِ أو أختهِ نصف ساعة يسألها عن حالها ؟ أو يتفوّه بكلمة ثناء وشكر لعملها المزعج المضيّع للوقت في المنزل ؟!
كل هذا وأكثر ، يجعلُ من هذا الدم دماً ملوثاً ، يحتاج للعناية والدواء فوراً ، وربما الترياق في بعضِ العلاقات ..
ما الدواءُ إذاً ؟
إنّهُ الحب ، الحبُّ أولاً وأخيراً لا أشير هنا أبداً إلى المشاعر ، فكلنا نُكنُّ مشاعراً اتجاه المقربين منّا
أتكلم عن الأفعال ، الحب أفعال ، ولم يكنْ يوماً مشاعر سمّي مشاعرك اتجاه الآخر أي شيء إلا الحب
الحب قيمة ، تتجسدُ بأفعالٍ تدلُّ عليه ( الحوار ، المشاركة ، الإنصات ، الاهتمام ، الكرم ، الاحترام ، تكريس الوقت ، التعلم ، الاعتراف بالخطأ والتحسين بعده ، منح الاستقلالية ، التعاطف ، اللباقة قولاً وفعلاً ، التفهم ، الصبر ، الخ )
أولادنا وآباؤنا لو كان لديهم بيتٌ آمنٌ يحفّهُ الحب لما شكوا شيئاً من تقلبات الحياة وضرباتها القاسية ، لديهم ما يغنيهم عن الدنيا ومافيها ، وما يلّبي لهم أعمقَ حاجاتهم ، الحبّ والأمان والانتماء.
لن تجدْ امرأةً تملكُ بيتاً بهذا الشكل -أو قريبٌ منه -وتشتكي من الحياة .
ولن تجد فتاةً مهتزة من الداخل ، تُطيح بها أي تجربة في الحياة وهي تملك بيتاً بهذا الشكل – أو قريبٌ منه-
لن تجد ابناً ، لا يشعرُ بكيانه ولا بفعاليته وهو يملكُ بيتاً بهذا الشكل أو -قريبٌ منه-
ولن تجد أباً أسعدَ من الأبِ الذي لديه بيتاً بهذا الشكل أو -قريبٌ منه-
ومجتمعنا ، واليوم خصوصاً ليس بحاجةٍ لشيء كحاجته لبيتٍ بهذا الشكل أو -قريبٌ منه –
لكن بيوتنا جافة من الحب ، إلا القليل تسيرُ ” سبهلله ” لاتعرفُ درباً ولاغاية ولو قارنتَ الوقت والطاقة المهدورة في المشاكل الناتجة عن غياب الحب لوجدتها بنفس القدرِ لو وضعتها في بناءه ، وربما أكثر ! ناهيكَ عن النتائج هنا والنتائج هناك .
علي أن أعترف من باب الإنصاف ، أنّ أفراد العائلة عموماً في النكبات والمصائب والنازلات والطالعات هم من يقفون بشراسة معك ، ويُظهرون أفضل ما عندهم ، ويشكلّون سدّاً يُصِرُّ أن ينهار هو قبلَ أن يَمسّكَ مكروه . لكن كم عدد هذه المصائب مقارنةً بالأيام الهادئة التي يعيشونها سويّاً ؟ وماذا ستنتجُ وتقدّم عائلة تقفُ معي في مصيبتي وتنساني في باقي أيامي ؟ لاشيء طبعاً ، هذه العائلة عائلة انفعالية تحكمها المشاعر وليس الحب .
واسمحوا لي أن أعترف أنّني لستُ في عائلةٍ مثالية كما يُخيّل لأذهانكم ، نواجه مثلكم – مثلَ أيّ عائلة – تحدياتٍ كثيرة ومتعبة ومنهكة ، إنما : ١-نعرفُ عثراتنا ٢-ونعترفُ بها ٣-ولدينا رغبة في تغييرها ٤- وهناك تحسنٌ يظهرُ مع الوقت
هذه الرباعية ، هي التي نقيسُ عليها رضانا عن أنفسنا نحيدُ عنها مرة ، ونلتزم بها مرة ، المهم أننا لا ننساها أبداً أعتقدُ أنها مقياسٌ جيّد ، لنقول عن عائلة أنها من الممكن ألّا تكون رقماً عابراً ، عاشت وأكلت وشربتْ ورحلتْ هكذا .. بل عائلة أنتجت شيئاً ، شيئاً غالياً جداً ، تعرفونه بكلّ تأكيد !
أحمد فارس العلي