سرعان ما طغت حادثة إطلاق النار داخل ملهى ليلي في اورلاندو بولاية فلوريدا على الكم الاوسع من التغطية الاعلامية واهتمامات النخب السياسية والفكرية. وتسابقت الوسائل الاعلامية المتعددة لإبراز رابط غير موثق بين مطلق النار، عمر متين، وتنظيم داعش، فضلاً عن خلفيته الاسلامية، مما أدى إلى ارتفاع طفيف في أسهم ترامب.
جاءت حادثة إطلاق النار في فلوريدا لتعيد ترتيب الاولويات وفي صدارتها تهديد الارهاب
جاءت حادثة إطلاق النار في فلوريدا لتعيد ترتيب الاولويات وفي صدارتها تهديد الارهاب
درجت العادة أن يستقبل الاميركيون الفترة الفاصلة بين انتهاء الانتخابات التمهيدية، وانعقاد مؤتمري الحزبين براحة معنوية تعينهم على تحمل أعباء الصراعات القاسية المرئية، لحشد الطاقات والخبرات المطلوبة للاستجابة للاهتمامات الشعبية المتمثلة في حال الاقتصاد، بالدرجة الاولى. وجاءت حادثة إطلاق النار في فلوريدا لتعيد ترتيب الاولويات وفي صدارتها تهديد الارهاب، وتقييد حركة شراء الاسلحة وفرض قوانين واجراءات جديدة على المهاجرين.
بيد أن التطورات الانتخابية للسنة الحالية سارت باتجاه مغاير، وشهد الاسبوع المنصرم نشاطات فوق العادة للمرشحين. إذ برزت السيدة هيلاري كلينتون كمرشحة أقوى لنيل ترشيح الحزب الديموقراطي، بعد تفوقها في مراكمة عدد المندوبين قبل المؤتمر الحزبي، رافقها تقلبات بيانات استطلاعات الرأي مع دلالتها على التحاق ما تبقى من قيادات ديموقراطية بحملتها وغعلان التأييد لها.
في الطرف الآخر، تفوق المرشح المحتمل دونالد ترامب على نفسه في استيلاد أعداء جدد بإطلاقه تصريحات معادية لقاضي محكمة فيدرالية، من أصول مكسيكية، مما أطلق سهام الانتقادات المتزايدة نحوه. بيد أنها لم تكن بالقدر أو الحدة المطلوبة لثنيه عن تصريحات لسانه السليط وكسب مزيد من الاعداء.
وما لبثت هيلاري كلينتون ان راكمت المزيد من الدعم عقب تلقيها تأييد رسمي من البيت الابيض، واستغلت الثغرات السياسية التي افتعلها ترامب لصالحها جماهيرياً.
وسرعان ما طغت حادثة اطلاق النار داخل ملهى ليلي في اورلاندو بولاية فلوريدا على الكم الاوسع من التغطية الاعلامية واهتمامات النخب السياسية والفكرية. وتسابقت الوسائل الاعلامية المتعددة لابراز رابط غير موثق بين مطلق النار، عمر متين، وتنظيم داعش، فضلاً عن خلفيته الاسلامية، مما أدى إلى ارتفاع طفيف في أسهم ترامب.
بيانات استطلاعات الرأي التي أجريت مباشرة بعد الحادثة أظهرت اصطفاف نسبة ضئيلة بزيادة لا تتجاوز 4% من الاميركيين وراء ترامب كمرشح مفضل لمعالجة تحديات مماثلة من الارهاب داخل الاراضي الاميركية. وفي ذات السياق لا زالت الاغلبية النسبية من الاميركيين، 50%، تعارض فرض قيود اضافية على اقتناء الاسلحة والبنادق شبه الاوتوماتيكية.
لم يدخر ترامب جهداً لاستنهاض أعدائه ومحاولة الايقاع بخصومه معتبراً ما جرى هو “تعرض ملهى ليلي مليء بأناس أميركيين أبرياء جرى قتلهم بدم بارد”. وأضاف زاعماً أن “الارهابيين المسلمين وضعوا نصب اعينهم شن هجوم على مجمع ملاهي ديزني” التي تقع في ذات المدينة. ومضى بالقول إن “أميركيون يعشقون الحرية تم حصدهم بغبطة وسرور من قبل متطرف وإرهابي إسلامي مخلص تملأ الكراهية قلبه”.
الساسة المسؤولون، وعلى رأسهم الرئيس اوباما والمرشحة هيلاري كلينتون فضلوا طريقاً مغايراً لاتهامات ترامب العشوائية، وتسليط الجهود مرة أخرى على مسألة وضع قيود على اقتناء السلاح وحرمان المتطرفين من شرائه.
وشددت كلينتون على مفردات “الخطاب التحريضي ضد المسلمين والتهديد بحظر دخول عائلات باكملها وأصدقاء لأميركيين مسلمين، وكذلك الأمر ضد ملايين المسلمين من اصحاب الاعمال والراغبين بالسياحة إلى بلدنا مما يلحق الضرر بالغالبية العظمى من المسلمين الذين يعشقون الحرية وينبذون الارهاب”.
وحذرت كلينتون المؤسسات الاميركية التي تسارع بتنبي الخطاب الاقصائي بأن معدلات “جرائم الكراهية ضد المسلمين الاميركيين ومساجدهم تضاعفت ثلاث مرات منذ هجمات باريس وسان بيرنادينو. انه خطأ، كما انه خطير ويصب في خدمة الارهابيين”.
الرئيس اوباما بدوره حافظ على هدوئه المعتاد وتبديد اوهام اخطار الارهاب، عززه مقابلته الشهيرة مع مجلة اتلانتيك التي جاء فيها ان الرئيس اوباما “لم يؤمن يوما بأن الارهاب يشكل خطرا على اميركا يتناسب وحالة الخوف المرافقة له.” واضافت الاسبوعية ان اوباما “يذكِّر مساعديه على الدوام بأن ضحايا الارهاب في اميركا اقل كثيرا من حوادث اطلاق النار، وحوادث السيارات، واولئك الذين يتساقطون في حمامات بيوتهم”.
توجه الرئيس اوباما مباشرة عقب حادثة اورلاندو يخاطب الاميركيين بأن الفاعل “متطرف محلي .. الهمه الخطاب الدعائي والمنحرف عن الاسلام الذي نراه متجسداً على شبكة الانترنت”. وحرص الرئيس اوباما على عدم الايحاء بربط حادث إطلاق النار بتنظيم داعش.
انضم بعض قادة الحزب الجمهوري لتأييد خطاب الرئيس اوباما، ولو بتردد، اذ قال رئيس مجلس النواب، بول رايان، إنه يشاطر الرئيس اوباما ما قاله، مضيفاً أنه يعتقد بأن دونالد ترامب كان قاسياً أكثر من اللازم على المسلمين.
من المفارقة السياسية رؤية انضمام بعض الساسة عن الحزب الديموقراطي الى ترامب وخطابه، أبرزهم كان العضو السابق في مجلس النواب بارني فرانك الذي تضامن مع ترامب من واقع حرصه على “سلامة المثليين”، الذين هو أحدهم. وأوضح قائلاً إن الهجوم “يدل على مدى الكراهية الخبيثة في اوساط ذلك القطاع من الاسلام. نعم نجد هنا عنصراً إسلامياً بوضوح للأسف، عنصر يتبع مدرسة فكرية محددة في الاسلام تشجع على قتل الآخرين”.
قولبة التصويت
في ظل المناخ المشحون والمنقسم في المشهد السياسي الاميركي، خاصة لمناهضة اعداد متزايدة للمرشح المحتمل دونالد ترامب. ويبرز السؤال للتعرف على كنه تصويت الاميركيين يوم الحساب. تجدر الاشارة إلى أن الغالبية المعتبرة من كلا الحزبين، تمارس حقها بالتصويت لصالح الحزب السياسي بصرف النظر عن مرشحه أو منافسه.
بيد أن اتساع الهوة السياسية بين المسؤولين والناخبين في الموسم الراهن، يؤشر ربما إلى نتيجة مغايرة تأخذ بعين الاعتبار عدد من العناصر منها “الفوارق الحضارية” بين المناطق الاميركية المختلفة، والتي تعكس حقيقة تنوع وتعدد مكونات الشعب الاميركي، خاصة عند الاخذ بعامل الدين والتدين بعين الاعتبار.
قياساً على ذلك، تندرج حادثة اورلاندو لكيفية تحكمها بتوجهات الرأي العام. فريق سياسي يرى فيها نتاج سياسات رخوة لضبط اقتناء السلاح وما تؤدي اليه من مشاعر الكراهية ضد مجموعات بعينها، سواء عرقية أو دينية. الفريق الآخر المقابل رأى الحادثة بأنها نتيجة سياسات رسمية متسامحة مع هجرة المسلمين من دول الشرق الاوسط، وتجسيد لفشل سياسات التصدي “للارهاب الاسلامي المتطرف”.
ما هو محل إجماع بين الاطراف المتعددة هو تفاقم الهوة بين الفريقين وعسر جسرها في أي وقت قريب، والعقبات الكبيرة التي ستعترض جهود المرشحين للرئاسة، كلينتون وترامب، والرئيس اوباما أيضاً لتقريب وجهات نظر الطرفين.
يمكن للمرء الاستنتاج بأن حظوظ تجسد تغيرات سياسية بعد الحادثة تبقى بعيدة المنال. فإدارة الرئيس اوباما لن تقدم على ادخال تعديلات جوهرية على سياستها في مكافحة الارهاب، لا سيما وان الرئيس اوباما دأب على حث الاميركيين التزام الهدوء، ومطالبة أعضاء الكونغرس بتشديد القيود على اقتناء السلاح.
تشديد القيود على اقتناء السلاح، مادة ملازمة للخطاب السياسي وعند كل موسم انتخابي. لو افترضنا جدلاً ان الكونغرس سيتحرك بهذا الاتجاه، والذي من شانه الاصدام المباشر مع اولياء نعمته من الشركات الكبرى، فان الصيغة القانونية ستأتي مطاطة للتأكيد على الانحناء امام عاصفة الاهالي المتضررين من حوادث اطلاق النار. اما في ظل الهجوم قيد البحث فان المرجح تزايد اعداد الاميركيين المطالبين بحق اقتناء السلاح، كما تدل استطلاعات الرأي بثبات عليه؛ اذ ارتفع معدل شراء الاسلحة النارية بنحو ثلاثة اضعاف بعد حادثة اطلاق النار في مدرسة ساندي هوك الابتدائية، نهاية عام 2012.
احد الاستطلاعات الحديثة جرت باشراف شبكة (ايه بي سي) للتلفزة دلت على معارضة كبيرة من الاميركيين لحظر الاتجار بالاسلحة، 53% مقابل 45% تؤيد الحظر. بينما بلغ حجم تأييد الحظر 80% من الاميركيين عام 1994. ودل استطلاع مماثل اجرته وكالة بلومبيرغ للانباء فور حادثة اورلاندو الى معارضة 50% من البالغين لفرض حظر على الاسلحة.
استقراء التوجهات المقبلة للناخبين الاميركيين تشير بوضوح الى اولوية الحالة الاقتصادية، وبقاء مسألتي الارهاب والحد من الهجرة كحجري رحى بين الفريقين، الديموقراطي والجمهوري، يتبادلان الاتهامات بشأنهما. خطاب ترامب العنصري لقي اصداء عند الناخبين الذين اعرب نحو 51% عن اعتقادهم بأن “التطرف الاسلامي” يشكل اكبر تهديد لمستقبل البلاد، 16 حزيران الجاري؛ مما يعكس نجاح ترامب في تسخير الهجوم لخدمة خطابه السياسي. وتجدر الاشارة في هذا الصدد الى وقوع حوادث مماثلة، قبل موعد الانتخابات، سيعزز فرص ترامب في الفوز بصرف النظر عن أهليته وصلاحيته واتزانه لتبوء المنصب.
منذر سليمان الميادين نت