حيدر مصطفى
صحيفة رأي اليوم الالكترونية
أسمانا التاريخ عشاق الحياة كوننا سكان أقدم عاصمة في العالم، دمشق. ولم تكن التسمية حكرا على أبناء المدينة وحدهم وإنما على أبناء هذه المنطقة ككل، أبناء الشام من دمشق إلى بيروت والقدس، سوريو الطبيعة والجغرافيا التي باتت مرتعا لكل معركة عالمية.
ما الحكمة التي ابتغاها الله من جعلنا بشرا تحت حكم النار والظلم لمجرد أننا خلقنا على هذه البقعة من هذا الكوكب المقيت، لماذا حُكِم علينا بضرورة القتال حتى آخر رمق.. إن بقي لنا رمق ونحن ظمأى وجائعون منذ أن ولدنا، تواقون للحرية والاستقلال الذي يغادرنا طيفه مسرعا كلما اقترب مننا وكأن إرادة الوجود قد حتمت علينا الحياة ونحن نرزح تحت وطأة الإرهاصات السياسية الدولية وأزيز الرصاص وقنابل المدافع ومعارك الأقطاب ولا مفر. وماذا إن قررنا الرحيل هل يغادرنا الشعور بالظلم، هل نشعر بالاستقلال، هل تقترب منا الحرية، هل نشعر بالكرامة، هل نحقق ذاتنا؟
ملايينُ هجروا عن فلسطين، ومثلهم غادروا لبنان، ومؤخرا ملايينٌ من السوريين باتوا لاجئين في كل بقعة من بقاع هذا العالم، هي هجرة أخرى لأبناء الشمس وأحفاد تدمر وأوغاريت، لسكان الأزقة القديمة والأرياف الفقيرة، لرواد المدن الجدد الذين ما لبثوا في البدء بنهضةٍ جديدة حتى عادت عاصفة الموت والقتل والتشريد القسري لتدمر لهم ما تبقى من أمل.
لم يغادرني طيف دمشق، لا زالت شوارعها تسكنني، حالي كحال كلُ سوريٍ في المهجر الكامل أو الجزئي في تركيا أو الأردن أو لبنان وأوربا، هجرنا الشام لكنها لم تهجرنا. لم نتألم فيها عندما كنا نحيا تحت قذائف الهاون ورصاص القنص وتفجيرات العبوات، كما نتألم الآن. ومن منا لا يسأل نفسه لماذا ابتغينا الرحيل؟
لم نبتغي الرحيلُ يوما، وكثيرة هي الأسباب، هل هجرَنا الضمير أم أن ما تبقى في قلوبنا من إنسانية أجبرتنا على الرحيل علنا نعود يوما ونستعيد زمام النهضة التي نبتغي؟ وهل من سوريٍ يحيا يومه دونَ ألم في الضمير..
لقد خنا بلادنا يا سادة، كيف لا نعترف بذلك؟ أجبرونا على بعدها مهما طال غيابنا أو قصر، فها نحن اليوم نقف على أطلالها نشاهدها تعتصر من الألم، أهلها يذبحون يوميا، تقتلهم قذائف جيش الإسلام “المعتدل”، ينهكهم غلاء المعيشة، تتشفى بهم مافيات الاقتصاد من الداخل والخارج، يناضلون للبقاء، يتمسكون بالحجارة والتراب.
لكن هل نحن فعلا خونة.. في وطن أصبح فيه مفهوم الخيانة متعدد الأشكال والأصناف، في بلد باتت توزع فيه شهادات الوطنية عبر الفيسبوك في كثير من الحالات، لسنا خونة إن كنا خرجنا سعيا عن لقمةٍ نظيفة لم تلوث بالدماء والسرقة والمتجارة بدماء الشهداء والضحايا، لسنا خونة إن وجدنا في حضن آخر ملاذا آمنا عسى أن نعودَ يوما إلى حضن أم العرب جميعهم، ولن نستطرد كثيرا في الكلام عن عصرة قلبنا من مواقف قياداتهم الذليلة وغيابُ شعوبهم بمعظمها عن الحقيقة.
متى نعود إلى دمشق؟ سنعود يوما لنحيا بها مجددا.. عندما يصبحُ كلُ سوريٍ مواطنا تحت سقف القانون، عندما تعود إلينا كرامتنا التي أذلتها الحرب وساهم في استحقارها إخوةٌ لنا من لحمٍ ودم. عندما يضعُ المارقون أسلحتهم البالية على أرض سئمت نذالتهم، ونستعيد حقنا في الحياة دون خوف أو ذعر، عندما نستعيد كامل حقوقنا لخدمة بلادنا بالطرق والأساليب التي نريدها دون قيد أو وصاية أو رقابة وإملاءات من أحد، عندما تصبح الحياة الكريمة مجدداً حقا للجميع .. وحتى لحظة العودة، نحن موتى في غربتنا ولا يحيى في أرواحنا سوى الأمل، فرجاءً رجاءً كفو عن قتله ..