استمعت قبل قليل لخطابين في الأمم المتحدة، الأول للأم تيريزا والثاني لـ”قلب الأسد”، أقصد رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما والثاني تميم آل ثاني أمير إمارة قطر، وقد اختلط الأمر عليَّ في التفريق بين رئيس الإمبراطورية وأمير الإمارة، كما اختلط عليَّ أمر آخر حين قال تميم: “داريا قصة صمود لكنها تعرضت للتهجير القسري”، وهذه نفس المصطلحات والتوصيفات التي استخدمتها قناة الجزيرة عن داريا، أهو متأثرٌ بها أم أنه يلقنها، خصوصًا أن الجزيرة ليست قناة حكومية في دولة قمعية، بل هي قناة الحرية في بلاد الديمقراطية. وسبب هذا الاختلاط تلك المسحة الإنسانية التي طغت على خطاب أوباما، حتى أنه اعتبر “أن روسيا تستخدم القوة في محاولة استعادة أمجادها القديمة”، وهذا بعكس الولايات المتحدة التي اعتبرها واحة للحريات-والدليل أن شخصًا مثله أصبح رئيسًا- ونشر الديمقراطيات عبر العالم. أما ما لم يعد قابلًا للاختلاط فهو قزمية الدور الفرنسي، رغم إصرار هولاند على تذكير العالم دائمًا عند كل صفعة لبلاده بأنها تمتلك حاملة طائرات واسمها شارل ديغول، فقد قال على هامش خطابه في الأمم المتحدة “أن فرنسا لا تمتلك فقط الكلام في الأزمة السورية” وهذا صحيح، فهي تمتلك دفتر شيكات سعودي أيضًا.
ما كان لافتًا في خطاب أوباما، وأظن أنه أصدق ما قال، هو قوله “من المسلمات أن الدول الكبرى لا تسعى إلى حرب عالمية ثالثة”، وكنت قد كتبت سابقًا بأن الاتفاق الوحيد الساري المفعول بين روسيا وأمريكا، هو عدم الوصول لمرحلة الاشتباك المباشر، لذلك فالهدنة وإقرارها أو اختراقها، موتها أو إنعاشها هو تحت هذا السقف، وقد أصبح من الثابت بالقطع بأن الولايات المتحدة تحاول كسب الوقت لحين انتهاء الانتخابات الرئاسية، مع المحافظة على الجسم الإرهابي معافىً والحفاظ على مكتسباته الميدانية، دون الوصول لمرحلة الاصطدام المباشر. لذلك، فإنّ الإدارة الأمريكية لم تجد من وسيلةٍ إلا اللجوء لسياسة النكايات أولًا والإرباك ثانيًا، فلطالما رددت روسيا بأنه على الولايات المتحدة الفصل بين “المعتدلين والمتطرفين”، ولكن دون جدوى، وفي الفترة التي تلت الهدنة بدأت روسيا بإظهار عجز الولايات المتحدة عن الفصل حد التصريح بذلك من كلا الطرفين، كما كان يتبع تلك التصريحات الروسية تصريحات مماثلة أمريكية عن ضرورة أن تمارس روسيا ضغطًا على “النظام” السوري، واليوم يقول كيري بأنّ “روسيا فقدت سيطرتها على الأسد الذي يقصف شعبه والمساعدات الإنسانية دومًا”، رغم أن الأمم المتحدة قامت بتعديل وصف حادثة قافلة المساعدات من قصف إلى هجوم، وهو تغيير يشي بتراجع نسبي عن اتهام روسيا أو سوريا، لتظهر سياسة النكايات في أوضح صورها.
أما بخصوص سياسة الإرباك، فهي لا تبدأ عند دعم عدوين لدودين في ذات الوقت تركيا والأكراد، ولا تنتهي برفع الأعلام الأمريكية على الأراضي السورية وقصف مواقع للجيش السوري، وبالنظر إلى تصريح وزير الخارجية الفرنسي عن اجتماع نيويورك لمناقشة الملف السوري، حيث قال إن “الاجتماع كان مأساويًا”، وهذا دليلٌ قاطع على أن فرنسا لا تملك سوى الكلام، فقد خرج بعدها كيري ليصرح بالسعي لاستمرار الهدنة. وأما المأساوية التي أذهلت الوزير الفرنسي فلا تعني إلا التجاذب المستمر والسجال حامي الوطيس بين القوى الفاعلة منذ بدء العدوان على سوريا، أما “الكلمنجي” الآخر فهو أردوغان، وهو الشخص الوحيد في العالم الذي استطاع التفريق بين “معتدلين ومتطرفين”، حيث استجلبهم ليخوض بهم غمار درع الفرات، وهي لا تعدو كونها مسرحية استبدال لحى، فداعش المتطرف ينسحب أمام ما يسمى بـ”الجيش الحر المعتدل” دونما قتال، حيث أن المعتدلين مخيفون، ومن على منبر الأمم المتحدة برر التطبيع مع “إسرائيل” بأنه لخدمة السلام. ولكن لماذا لم يطبع مع صديقه سابقًا الرئيس الأسد من أجل السلام، بل أعلن حربًا لمجرد أن قال له الأسد إن سوريا دولة ذات سيادة، كما أنه أعاد احتفالية التسول التي يمارسها على حساب اللاجئين، وقال إنّ بلاده تكلفت 12 مليار دولار ونصف المليار، في عملية ابتزاز جديدة للأوروبيين، كما أعاد الحديث عن المنطقة الآمنة وهي تدخل في إطار سياسة الكلام، حتى أنها لا ترقى لسياسة الإرباك ولا حتى النكايات.
في إطار ما نشهده من تصريحات ناعية للهدنة وأخرى متأملة بتجديدها واستمرارها، نستطيع القول وبثقة إنّ الولايات المتحدة لا خيارات أمامها للوصول إلى أهدافها سوى الهدنة الحالية استمرارها أو تجديدها، وكان تصريح ديمستورا موجهًا ومقصودًا حين قال “أن الهدنة لا تنتهي إلا إذا أعلن ذلك من وقعها، يقصد أمريكا وروسيا”، وهذا في إشارة إلى إعلان الجيش السوري بإنتهاء الهدنة، وهذا يعني أن الهدنة سارية ولكن على نار ساخنة لأنها الخيار الأمريكي الوحيد، وقد تم تأجيل اجتماع نيويورك ليوم الجمعة المقبل، وسيظل السجال السياسي قائمًا حول الهدنة حتى ذلك الحين. والواضح أن ما سيحدد نجاح الاتفاق على استمرار الهدنة من عدمه، هو امتناع الولايات المتحدة عن ارتكاب ضربة تحت الحزام، إن بشكل مباشر أو عبر ذراعها المسلح من كل التشكيلات الإرهابية.
المصدر : بيروت برس