تسبّبَ كتاب دانيال غولمان ” الذكاء العاطفي ” الذي صدر في عام ١٩٩٥ بزلزال حقيقي في الأوساط العلمية ، وكذلك في الأوساط العامة ، وأحدث مايشبه الصدمة فيما يخص تحديد معايير التوازن والنجاح في الحياة.
بفضل الكتاب ذائع الصيت والأبحاث السابقة واللاحقة عليه تمّ انقاذ مايعرف بالأداء النفسي والوظيفي والمهارات الاجتماعية التي كانت مهمشة لفترة غير قصيرة.
بدأت القصة مع بداية القرن العشرين ، القرن الذي يركز على العِلمية والعقلانية الصارمة، حينما تشكلت صورة ذهنية قاصرة في العقل العلمي و الشعبي حول “الذكاء” ارتبطتْ آنذاك ارتباطاً يكادُ لا ينفك مع مانسميه القدرات التحليلية والمنطقية والرياضية والادراكية والتفكير المجرد والاستدلال والحكم والذاكرة الخ
فالذكي هو من يملك هذه القدرات حصراً !
حتى صار عند الأهل مثلاً أن فشل الطفل مدرسياً يعدُّ مؤشراً على فشله في الحياة ، وربما غبائه !
أو من يحمل شهادة أكاديمية عالية فهذا يعني بالضرورة أنه شخص ناجح اجتماعياً أو نفسياً أو مهنياً ..الخ !
غير أنّ هذه الصورة أثارت حفيظة مجموعة من علماء النفس، الذين رأوا أنها صورة مجحفة وغير متكاملة عن الانسان باعتباره كائناً يملك جانباً عقلياً وآخرَ انفعالياً، ولأنّ الانفعالات كما هو مسلمٌ به اليوم علمياً تلعب دوراً ضخماً وأساسياً في حياة الانسان سلباً وايجاباً.
كان هؤلاء العلماء يتساءلون :
لماذا يستطيع البعض الذين لا يتمتعون بقدرات عقلية عالية تحقيق النجاح في الحياة ؟
بل لماذا قد يخفق بعض الذين يملكون هذه القدرات في حياتهم العملية والاجتماعية بصورة مفزعة ؟
ولماذا يتمتع البعض بصحة عاطفية ونفسية أفضل ؟
وما الفرق الحاسم بين شخص يمتلك قدرات ادراكية وعقلية عالية ولا يشعر بالرضى والحافز للحياة ولايملك حد أدنى من التحكم بدوافعه وانفعالاته ؟!! وبين شخص لا يسجل معدلات عالية في الاختبارات العقلية إلا أنه يملك مهارات اجتماعية وعملية فذّة، وقدرة على التواصل مع نفسه ومع الآخرين بطريقة فعالة ؟!!
بدأتْ محاولة الاجابة على هذه الأسئلة بشكل منهجي في الثمانينات، على يد باحثيين مثل جون ماير وسالوفي وريفن بار أون وغيرهم ، وتوّج أعمالهم وزاد عليها البرفيسور دانيال غولمان في كتابه سابق الذكر ، بعد أن عالج بكياسة وحذاقة عالية العديد من الأبحاث التي تدور حول الأداء النفسي والاجتماعي ، وأضاف اضافات لا يمكن تجاوزها عندما الحديث عن الذكاء العاطفي.
إن مصطلح الذكاء العاطفي أو مايعرف اختصاراً ب ” Eq ”
يشير إلى مجموعة القدرات والمهارات غير المعرفية ( العاطفية ) التي تؤثر على قدرة الشخص على النجاح في التعامل مع نفسه ومع الآخرين.
والفرق بينه وبين الذكاء العقلي ، أن هذا الأخير يمثل مقياساً للقدرات الفكرية والمنطقية والمهارات اللفظية والمكانية والحسابية والتذكرية والمهارات الخاصة بالتعامل مع الأرقام والبيانات .. الخ
بينما الذكاء العاطفي يهتم بجانبٍ آخر لا يقل أهميةً عن الذكاء العقلي ، بل ربما أكثر أهمية في الكثيرِ من الأحيان ..!
هذا الجانب يتناول قدرة المرء على على النجاح في التعامل مع الاحتياجات و الضغوطات ، وفهم الانفعالات والتواصل معها وتنظيمها وإحداثها ، والوعي بالذات والتعاطف وبناء العلاقات ..الخ
وكلنا نعرف أشخاصاً يسجلون معدلات عالية في مقياس الذكاء العقلي ، غير أنهم لايستطيعون الاستفادة منه بشيء في حياتهم الشخصية والعملية ، ويعود السبب في ذلك لافتقارهم للذكاء العاطفي.
الذكاء العاطفي ليس بدعةً ولا هو بالشيء الجديد تماماً ، إنما حُيِّدَ جانباً لفترة ، ودخل بسباتٍ استفاقَ منه حديثاً ، بسبب تركيز القرن العشرين على المفاهيم العقلانية والعلمية والرقمية كما ذكرنا، واليوم يعدّ الذكاء العاطفي على رأس أولى الأولويات التي تعمل عليها خطط الدولة التنموية وبرامج المنظمات والمدارس والجامعات والمراكز التدريبية.
سأتحدث عن أهمية الذكاء العاطفي واستخداماته ومفاهيمه وبحوثه في المقالات القادمة التي ستشكل السلسة التي قررت أن أبتدئها بهذه المقدمة، لما للموضوع من أهمية كبيرة تجعل لزاماً علينا التحدث فيه خارج الدورات التدريبية الضيقة.
يتبع ..
أحمد فارس العلي (يمكنكم التواصل مع الكاتب من خلال النقر هنا)